تُحفة النُّظارة في عجائب الإمارة

(رحلة ابن بطوطة إلى دبي المحروسة)

فكرة وتأليف وإخراج محمد سناجلة

قال الشيخ الفقيه العالم الناسك الثقة الأبر وفد الله المعتمر شرف الدين المعتمد في سياحته على رب العالمين أبو عبدالله محمد بن عبدالله بن محمد بن إبراهيم اللواتي ثم الطنجي المعروف بابن بطوطة رحمه الله ورضي عنه وكرمه آمين، أنه قال: جاءني مساء يوم الخميس السابع والعشرين ربيع الآخر من عام 1443 هجرية الموافق للثاني من ديسمبر سنة 2021 من التاريخ الميلادي رسول من عند مولاي وسيدي وولي أمري ونعمتي أمير المؤمنين وفارس الحق والدين أبي عنان فارس المتوكل على الله سعيد بن عثمان المريني يأمرني فيه بالحضور في الحال.

فقمت من فوري وتوجهت مع الرسول إلى مجلس مولاي أمير المؤمنين في القصر العامر في ضواحي طنجة الزاهرة فاستقبلني هاشا باشا، وأمر كل من في مجلسه بالخروج حتى اختلى بي فليس بيننا بعد الله ثالث.

فأخبرني أنه قد سمع عن مدينة عجيبة في أقصى بلاد الشرق تحيط بها الصحراء من ثلاث جهات، وتنام على خد بحر الهند، فهي بين البحر والصحراء.

وأضاف أنه قد بلغه أن هذه المدينة التي تدعى "دبي" تحوي من العجائب والغرائب والكنوز والأموال ما لا يعد ولا يحصى مع أنه لم يسمع بها أحد قبل الآن، ولم تكن قبل بضع سنين شيئا مذكورا، وأخبرني أن حاكمها أمير  ذو همة عالية وهو أساس عجائب هذه المدينة التي لم يسمع بها في البلاد منذ إرم ذات العماد.

وطلب مني السفر في أقرب وقت لاستكشاف تلك البلاد، ومعرفة سر نموها وازدهارها، وحقيقة ما بها من عجائب وغرائب، ومقدار قوتها وثروتها، وأن أصور له كل ما أراه ثم أرسله له بالبريد الزاجل على العاجل، كي يكون على بينة واطلاع كـما لو أنه في عين المكان، يرى ما أرى دون تأخير ولا إبطاء.

وأعطاني آلة غريبة في حجم حبة الفاصولياء لها عين مغطاة قادرة على تصوير كل ما تراه، وفي الحقيقة فأنني لم أر مثل هذه الآلة في حياتي، رغم حلي وترحالي وتطوافي في بلاد الهند والسند والصين والشاش والترك والبنغال.

وكان اسم هذه الآلة الغريبة "عين الصقر"... ركبتها في عقالي على مقدمة رأسي في بداية سفري، وحرصت على أن تصور وتنقل كل شيء كما أوصاني مولاي أمير المؤمنين.

ركبت البحر الأعظم من طنجة في فجر اليوم التالي رفقة بعض التجار، وكانت ريح الله معنا فعبرنا بحر الأطلس إلى بحر الهند في أفضل حال، ثم دخلنا بحر العرب في مدى لا يتجاوز أسبوعين من الزمان، وهناك هاج البحر وماج فصرنا بين يديه مثل الدجاج، وعلت أصواتنا بالدعاء لله سبحانه وتعالى أن ينجينا من هذه المصيبة.

استمر البحر هائجا مائجا يلعب بنا ذات اليمين وذات الشمال  يومين كاملين، وسط برق ورعد وريح ومطر حتى بلغت منا القلوب الحناجر، ثم فجأة هدأ البحر كما ثار، فكأنه ما هاج ولا ماج فحمدنا الله على السلامة بعد أن كدنا نغرق قرب المنامة.

سار المركب بنا، وفجأة لاح لنا من بعيد بناء شاهق يرتفع وسط البحر، ويأخذ شكل شراع سفينة، نوره يشق عنان السماء فكأنه زبرجدة تلتمع فوق البحر وتحت السماء، تحيطه منظومة ملونة راقصة من أشكال نارية مجسمة، فكان شيئا لم أر مثله من قبل في حياتي، رغم حلي وترحالي في أصقاع الدنيا السبعة.

صورت هذه العجيبة في الحال، وبعثت بها فورا لمولاي أمير المؤمنين بالبريد الزاجل كما أوصاني.

ذكر غابة الأبراج

اقتربت بنا السفينة من شاطئ الجميرة، فبدت لنا المدينة تتكشف كما عروس ليلة دخلتها، بأنوارها الكثيرة ومبانيها الشاهقة، وأبراجها الكثيرة التي تشق السماء فكأنها تتسابق في العلو والارتفاع فلا يكاد يلحقها البصر، بل إن بعضها وأقسم بالله على هذا وقد رأيته رأي العين لم يروه لي أحد، بعض هذه الأبراج يشق السحاب، ويختفي خلف الغيوم فلا تكاد ترى نهايته.

والحق يقال يا أمير المؤمنين إنني لم أشاهد مثل هذا في زمن من الأزمان ولا بلد من البلدان، بل إن ناحية من المدينة تسمى المارينا وبها حي يسمى أبراج الجميرا رأيت فيه الأبراج كالأشجار، وقد سميتها غابة الأبراج، وهي تسمية مني أنا صاحبها لم يسبقني أحد إليها.

وذلك لأن الأبراج في هذه الناحية من المدينة كثيرة جدا، ومتكاتفة متلاصقة فكأنها أشجار غابة باسقة تلتف أغصانها على أشجارها، وتتلاصق كالعشاق في ليل العناق المشتاق فسبحان الله الذي علم الإنسان ما لم يعلم، وسخر له البر والبحر بقدرته وإرادته.

رست سفينتنا في الخور، وهو عجيبة أخرى من عجائب هذه المدينة ببرجها الجديد الذي يجري العمل على بنائه  ليلا ونهارا، وكان في استقبالنا الشيخ الفقيه العالم أحمد بن محمد بن علي بن بطي وهو شيخ التجار في المدينة، وعالم كبير من علمائها مكلف باستقبال كل سفينة ترسو في الميناء، وحصر ما بها من بضائع، وتسهيل حركة التجار، وتوفير كل ما يلزمهم في التو والحال.

أخبرت شيخ التجار الجليل أن معي رسالة من مولاي أمير المؤمنين إلى أمير المدينة وشيخ البلاد مولانا المبجل الجليل صاحب السلطان العظيم محمد بن راشد آل مكتوم أطال الله عمره ورفع ذكره، فقال: إن سمو الأمير في خارج البلاد في زيارة رسمية لبلاد ما وراء النهر، وسيعود بعد ثلاث ليال، وإنني ضيفه في هذا الأثناء، وكل طلب لي مجاب مهما كان.

فأطلعته على رغبتي بالتجول في المدينة، والاطلاع على عجائبها التي حيرت الألباب حتى صارت قبلة الشباب من كل البلاد للعيش فيها والتنعم بخيراتها، فعين لي مرافقا هو الكاتب العارف العالم الجليل حسين بن غريب شيخ الاتصال في مدينة التجار، وقد صار لي فيما بعد صديقا حميما جمعتنا حرفة الكتابة وحب العلم والمعرفة، كما صرف لي عربة سيارة تسير وحدها من غير خيل تجرها ولا بغال فسبحان الله وشكرا له على كل حال.

عن مدينة العالم وملتقى الدنيا

صادف يوم وصولي للمدينة العجيبة يوم بداية رأس السنة الجديدة التي يسمونها بالسنة الميلادية من تاريخهم، وفيها تجري احتفالات ضخمة ليس كمثلها شيء مما عهدناه في بلاد المغرب، حيث يتجمع آلاف مؤلفة من البشر من كل أصقاع الأرض في منطقة وسط المدينة.

فترى أهل الصين وأهل الهند وبلاد القفقاس والروس والإسكندناف مع الأمريكان والفرنسيس والألمان والترك والقوقاز والشركاس، ومن كل بلد وملة، ستجدهم في هذا اليوم الغريب يتجمعون للاحتفال الذي يبدأ في منتصف الليل بألعاب نارية لم أر مثيلا لها في حياتي، ولن أرى مثلها ما عشت حتى مماتي، حتى تضيء الأرض والسماء، ويصل وهج نورها إلى كل مكان في الدنيا فسبحان الله الذي علم الإنسان ما لم يعلم، وجعل له من سلطانه سلطانا ومغنم.

وفي الحقيقة يا مولاي، فإني رأيت في هذه المدينة من التعايش والانسجام بين مختلف شعوب الأرض ما لم يتحقق مثله في تاريخ الزمان وغابر الأيام.

وأخبرني الشيخ حسين لاحقا أنه يعيش في المدينة أكثر من 200 جنسية يأتون من أكثر من 200 بلد من البلدان، يعملون ويعيشون بكل حرية وانسجام من غير أن تحدث بينهم مشكلة مهما كانت، حيث تتعايش الحضارات، ويتقبل البشر اختلافاتهم عن بعضهم البعض بكل محبة وتسامح، وكل هذا بسبب جو الحرية والاحترام، وسيادة العدل والقانون الذي هو فوق كل قيل وقال، حتى سميت هذه المدينة بـ"مدينة العالم" وملتقى الدنيا لكثرة ما فيها من بشر من مختلف الملل والنحل.

ذكر قمة الدنيا

في المساء، وبعد الراحة من العناء ووعثاء السفر، جاءني الشيخ حسين ودعاني لحضور احتفالات السنة الجديدة، وأخذني إلى وسط المدينة لرؤية عجائبها الكثيرة، وأهمها البرج الذي هو تحفة النظار وعجيبة الزمان المسمى "برج خليفة" وهو أعلى بناء بناه الإنسان على مر العصور والأزمان، يغدو معه برج الفرنسيس في باريس مجرد قزم من الأقزام، وبرج الطليان المائل ظل من الظلال، فليس كمثله شيء، يتطاول حتى يشق عنان السماء، ويغيب خلف جبال الغيوم فلا ترى منتهاه العيون.

يبلغ ارتفاع البرج 828 مترا، وهو عبارة عن مدينة قائمة بذاتها يعيش فيها أكثر من 100 ألف إنسان ويحتوي على عدد كبير من المحلات التجارية، والأسواق والخانات والأجنحة الفخمة، وأماكن الترفيه والعبادة، وتبلغ مساحته الإجمالية 4,000,000 متر مربع، وبلغت تكلفة بنائه أكثر من 1.5 مليار دولار، واستمر العمل به خمس سنوات كاملة.

يضم البرج أعلى شرفة مشاهدة مفتوحة للجمهور، وكذلك أعلى مسجد، وأعلى مطعم، وأعلى حوض سباحة في العالم، فضلًا عن أرقام تخص مكونات البرج الذي شارك بتنفيذه نحو 12 ألف عامل ومهندس منذ بدء إنشائه.

ذكر النافورة الراقصة

عند أقدام البرج تقع بركة عظيمة، وسط ساحة شاسعة الأرجاء تصل مساحتها إلى 30 فدانا، ووسط هذه البحيرة رأينا  النافورة العجيبة التي ترقص مياهها وتتلوى كأنها وسط راقصة فاتنة من راقصات ألف ليلة وليلة على نغمات الموسيقى الغاوية، يأتي ليراها الناس من كل الأصقاع، ويبلغ ارتفاعها 275 مترا، وتقذف الماء إلى مسافة 240 مترا فسبحان الله.

ذكر أسماك القرش النائمة وسط الصحراء

بعد هذه العجيبة سرت مع الشيخ حسين لرؤية عجيبة أخرى من عجائب هذه المدينة التي لا تنتهي، دلفنا من ساحة البركة إلى مول دبي، وهو أكبر مجمع تجاري في العالم ويسمى سوق العالم، ويتكون من أكثر من 1200 محل تجاري، ويرتاده التجار والبائعون والمشترون من كل الدنيا.

وسط المول تقع أكبر أكبر حديقة حيوانات مائية في العالم، وتتسع لـ 10 ملايين لتر من المياه، وأخبرني الشيخ حسين أنها تضم أكثر من 33 ألف نوع من الحيوانات المائية، ورافقني ابن غريب للتنزه سيرا داخل النفق الذي يمتد 48 مترا تحت الماء، حيث كانت الأسماك تسبح من فوقنا وتحتنا ويميننا ويسارنا.

ولم ينته الأمر بدليلي حتى اصطحبني للغوص في الماء باستخدام اسطوانة خاصة سمحت لنا بالسباحة وسط أسماك القرش المفترسة، والعجيب في هذه الأسماك يا مولاي أنها مسالمة تماما فلم أر سمكة قرش تفترس شيئا، بل بدت وكأنها تسبح نائمة حتى أخبرني الشيخ حسين أن طعام كل سمكة يرسل لها كل يوم فلا تحتاج للافتراس فهل بعد هذا الإحسان من إمكان!

أبديت تعجبي من كل ما رأيت، وسألت بسذاجة كيف تم إحضار أسماك القرش من وسط البحر إلى هذا المتجر الذي يقبع وسط الصحراء؟

فضحك دليلي برزانة، ثم قال لي إن هذه المدينة هي قصة تحد، حيث بدأت من العدم تقريبا، ولم تكن قبل بضعة أعوام سوى قرية صغيرة وسط الصحراء، يعتمد أهلها على صيد السمك واللؤلؤ من البحر في معاشهم، ولكن همة أميرها الطموح حولتها في بضع سنين إلى تحفة النظار وأعجوبة الزمان، فخلف كل عجيبة حكاية، وخلف كل إنجاز قصة، وعزيمة لا تلين على تحقيق المستحيل، ولا مستحيل مع العمل.

حكاية ذات معنى ودلالة

أخبرني الشيخ ابن غريب بحكاية غريبة ذات معنى كبير قال لي إنه سمعها شخصيا من أمير البلاد، وأكدها الشخص المعني له لاحقا.

يقول الأمير: "ذات يوم دخل موظف إلى الديوان وشكرني بكلمات خجولة قليلة على ترقيته إلى منصب نائب مدير إحدى الدوائر متمنياً أن يكون عند حسن الظن، ثم استأذن بالانصراف فأمسكت يده وأجلسته وقلت له: محمد، لا تحسب أن ترقيتك جاءت صدفة، فأنا أتابع عملك منذ أربع سنوات وأعرف عنك كل شيء–.

استغرب الموظف وقال: أنا؟ أنا لا شيء. أنا موظف من عشرات الآلاف من الموظفين مثلي.

قلت له: كنتَ هكذا، لكن حدث ما جعلنا نهتم بك ونتابع أداءك.

ازداد استغراب الموظف، فالتفتُّ حولي وناديت على شاب اسمه معضد هو أحد أفراد فريق “المتسوقين السريين” طلبت منه أن يروي للحاضرين قصة الموظف.

وكان هذا الموظف لا يمكث في مكتبه طويلاً، وكثيراً ما ينزل إلى صالة المتعاملين، وربما وجد مستثمراً كبير السن فساعده على إتمام الإجراءات ثم قدم له الشاي وأوصله إلى الباب، وربما استكمل أوراق متعامل آخر، أو فعل أكثر مما هو مطلوب منه.

وكان من هؤلاء معضد الذي أعد تقريراً بما عاينه في الموظف من الكفاءة والمساعدة، فأوصيت بمتابعة أحواله. ولما سمعت بعد أربع سنوات أنه قدم استقالته بعد الحصول على عرض مغر من القطاع الخاص قررت أن أقدم له عرضاً أكثر إغراءً فرفّعته من منصبه في الصف الثالث إلى منصب نائب المدير في قرار لم يأت مفاجأة له فقط بل لمديره ولجميع العاملين في الدائرة".

ذكر رأس السنة

كانت الساعة تقترب من منتصف الليل حين عدنا لساحة البرج لنشارك في احتفال رأس السنة، وقد كان مشهدا لن أنساه في حياتي، آلاف مؤلفة من البشر من كل الملل والنحل، تجمعت في الساحة وجنباتها، والشوارع والطرق المؤدية إليها، والشرفات والمنازل، وسطوح الأبراج المجاورة كلها في انتظار الدقة الحاسمة.

وحين جاءت تفجرت السماء بالنار واللهب، برق ورعد وضوء يشق عنان السماء، وانشق البرج العملاق من أسفله إلى أعلاه بالألعاب النارية فغدا على شكل وردة تتلوها زهرة تتبعها نجوم لا عد لها ولا حصر، وتعجز الكلمات عن الوصف فليس من رأي وشاهد كمن سمع وقرأ، لهذا صورت كل شيء وبعثته لمولاي كي يرى ما أرى فلو اكتفيت بالكلام لما صدق ما أرويه إنسان.

بعد انتهاء الاحتفالات شعرت بالتعب والإرهاق بعد ذلك اليوم الغريب العجيب فتوجهت للخان الذي يسمونه فندقا للنوم، وما إن وصلت حتى رحت في نوم عميق تتخلله الأحلام والألوان.

ذكر مدينة الحب

في صباح اليوم التالي، جاءني الشيخ حسين مبتسما باشا كعادته، كانت أحلام وأطياف الليلة الماضية ما تزال تطوف في مخيلتي، وكنت أتساءل في نفسي إلى أين سيأخذني اليوم هذا الحاوي في هذه المدينة العجيبة.

وكأنه قرأ ما يدور في خلدي فبادرني بالقول: هل زرت الصين ورأيت سورها العظيم. قلت نعم، فقال: وهل زرت مصر ورأيت أهراماتها العجيبة، قلت نعم، فقال: وهل زرت الهند ورأيت تاج محلها، قلت نعم، فقال وهل زرت باريس ورأيت برج الفرنسيس، قلت نعم، فقال: وهل زرت بلاد الطليان ورأيت برجهم الميلان؟ قلت نعم، فقال وهل زرت بابل ورأيت حدائقها المعلقة؟ قلت نعم، فقال فهل زرت الإمارات ورأيت مدينة الحب؟ قلت: لا...

فقال تعال أريك عجائب الدنيا كلها في مدينة واحدة ومكان واحد بليلة واحدة، ففغرت فمي دهشة، ولم أعِ بنفسي وأنا أقول: وهل جمعتم عجائب الدنيا في مدينة؟

ابتسم وقال: بل أكثر... وسار بي إلى  مدينة العجائب.

وهناك رأيت ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، عجائب الدنيا كلها التي بناها البشر في سبعة آلاف عام من الحضارة، موجودة كلها بشكل أكبر وأجمل وأكثر إتقانا في هذا المكان المدهش، الذي كان قبل أعوام قليلة رمال صحراء قاحلة.

"تاج محل" يبدو كقلب كيوبيد وسط حدائق الحب الغناء التي تنتشر في كافة الأرجاء، وفي وسط الحدائق والجداول رأيت أجمل نساء العالم وحوريات الأرض متزينات معطرات متهيئات للحب والسعادة فكأنما المكان فردوس مشتهى.

وغير بعيد ترتفع أهرامات الجيزة الثلاثة، بينما ينتصب في وسط المدينة برج الفرنسيس المسمى إيفل، ولا يبعد عنه برج الروم المائل، ورأيت الجمال معلقا على حدائق بابل، والحور العين في كل الأرجاء، فتنة وإغراء، ودلع وغنج وإغواء، وروائح المسك والعنبر وعود الند والياسمين تختلط وتنتشر في كل مكان، فتبعث إحساسا عاما مخدرا ومنعشا يجعلك تحس وكأنك طائر معلق بين الأرض والسماء.

تخدرت ثم انتعشت ثم انتشيت وفردت أجنحتي وحلقت وأنا أشعر بأني كائن خرافي يعيش في عالم من أساطير وسحر وفتنة... نسيت ذاتي وسط الهالة، وكدت أذهل عن نفسي، وأنسى تصوير ما أراه وإرساله لمولاي أمير المؤمنين وسلطان الدنيا والدين.

صورت ما رأيت وأنا أمشي كالمذهول عن نفسي، وأرسلته بالبريد الزاجل لمولاي السلطان على العاجل.

ذكر الحديقة المعجزة

لم تنته عجائب هذا اليوم بعد، فبعد الغداء والاستراحة في حدائق بابل، أبديت تعجبي من جمال الحدائق في مدينة الحب، وحسن تصميمها وهندستها، وكثرة أشجارها وورودها وأنهارها وحور عينها، وقلت للشيخ حسين إنني عاشق للورد والزهور، وكنت دائما أتمنى لو أجمع كل ورود الدنيا في حديقة واحدة لكن هذا هو المستحيل بعينه، ويبقى مجرد حلم بعيد المنال.

تبسم الشيخ حسين، ثم قال: ومن أخبرك أنه مستحيل؟

قلت مستغربا للسؤال: هذا غير ممكن يا صديقي، إذ كيف ستجمع كل هذه الورود، وتوفر لها البيئة المناسبة لنموها في مكان واحد؟!

فقال دليلي: لا مستحيل في دبي، تعال أريك أكبر حديقة ورد في العالم، تضم كل ما يخطر على بالك من زهور من أي بقعة في الدنيا قد تتخيلها.

أبديت دهشتي: وأين نجد مثل هذه الحديقة؟

فرد مبتسما: قريبا جدا من هنا...

ركبنا العجلة السيارة، وبعد أقل من ساعة دخلنا في عالم من عطر وخيال....زهور وورود على طول المدى من كل نوع وشكل ولون وشذى، تتخذ أشكالا ساحرة متنوعة وفاتنة حد الدهشة المطلقة.

دخلنا جنة الورد من ممر القلوب، وهو عبارة عن تحفة فنية من الورود الطبيعية يضم على جانبيه سبعة مجسمات ضخمة من الزهور على شكل قلوب في إشارة لإمارات الدولة السبع.

بعد ممر القلوب، دلفنا إلى ممشى المظلات الملونة التي تنشر ظلالها على رؤوس الزوار كلوحة معلقة، ومجسم نسر الإمارات، بينما تتوسط الحديقة سبعة أهرامات من الزهور، يبلغ ارتفاع أكبرها عشرة أمتار، إضافة إلى ستة أهرامات أخرى يبلغ ارتفاع أكبرها خمسة أمتار، وبحيرتين داخل كل منهما نافورتان تضفيان لمسات جمالية على المكان، إضافة إلى مجموعات أخرى من التصاميم الرأسية والأفقية المشكلة بأنواع وألوان من الزهور والورود والنباتات الطبيعية.

يحيط بالحديقة أكبر سور من الزهور في العالم بطول يصل إلى 800 متر، وارتفاع أكثر من ثلاثة أمتار. وأخبرني ابن غريب أن مساحة الحديقة تبلغ مليون قدم مربعة، وممرات يبلغ مجمل طولها أربعة كيلومترات، وأكثر من 45 مليون زهرة مختلفة، و80 لوناً لزهور تزرع لأول مرة في المنطقة. لزهور تزرع لأول مرة في المنطقة.

ذكر جزر النخيل

حل المساء، ونحن بين خمائل الدحنون وشذى الياسمين يلف المكان بدوائر سحرية غير مرئية، وبدأ زوار الحديقة يغادرونها شيئا فشيئا مع قدوم الليل... شعرت بالجوع والتعب، وكذلك كان الشيخ حسين الذي اقترح أن نذهب للعشاء في منتجع أتلانتيس بجزر النخيل.

قلت: وما جزر النخيل وما أتلانتيس؟

فقال: سترى فالرؤية خير من الكلام، وأردف: لن نسير بل سنطير.

قلت متعجبا: نطير!

قال: نعم، وقرن القول بالفعل فإذا نحن في القطار الطائر.

ذكر القطار الطائر

وهذه يا مولاي غريبة تطير فوق عجيبة... عربات تطير فوق البحر والمساكن والبيوت، من غير صوت ولا ريموت، فوق مسار يبلغ طوله أكثر من ألف متر، وقد عد خصيصا للتجول فوق نخلة الجميرا التي هي أكبر جزيرة من صنع الإنسان في العالم، وقصة بنائها وكيف بنيت هي الأعجب.

ركبت العربة، وأنا غير مصدق وقلبي يرتجف من الخوف والتشوق للتجربة، وطار بنا فصرنا خلال ثوان فوق البحر، وتبدت لنا نخلة الجميرا بسعفاتها السبعة عشر، وفوقها البيوت والفلل والحدائق الغناء التي تتناثر في أعماق البحر فكان منظرا خياليا لم يحلم بمثله سندباد ولا فرعون ذو الأوتاد.

عدنا من رحلتنا الطائرة إلى خان أتلانتيس لتناول العشاء وهو عجيبة أخرى في هذه المدينة التي لا تنقطع عجائبها ولا تنتهي.

تناولنا العشاء البحري الفاخر في مطعم تحت الماء، والأسماك من كل الأنواع والألوان تحيط بنا من كل الجهات، فكأنما نحن خارج الزمان والمكان في عالم من سحر وخيال.

في نهاية هذا اليوم الغريب، شعرت بتخمة معرفية ومشهدية، وأردت أن أخلو بنفسي قليلا لأستوعب ما شاهدت ورأيت مما لم يره ولا سمع به من قبل إنس ولا جان.

لكن دليلي أبى إلا أن نختم الليلة بسهرة مخملية بين غناء وطرب وموسيقى وألحان، وحولنا الجواري الحسان يتراقصن كالأقمار، وطال الليل بنا فبتنا كما قال الشاعر:

عدت مع ساعات الفجر الأولى لحجرتي في الخان أتمايل طربا، ولا تغيب عن خاطري ذكرى هذا اليوم العجيب.

نمت في خميل من ظلال وصور، وبقايا ألحان تثير الشجن، حلمت بزوجتي وأطفالي في طنجة البعيدة فشعرت بالحنين، ولم أصح إلا على صوت الشيخ حسين يتصل بي من بهو الخان.

اغتسلت، ولبست ملابسي، ونزلت لملاقاة دليلي، وأنا أتساءل بيني وبيني: ماذا يعد لي هذا الساحر اليوم، وأي عجائب سيريني!

وجدته في البهو يشرب فنجانا من القهوة فانضممت اليه.

بادرني بالقول: عاد مولانا الأمير ليلة أمس، وقد سمع بك وبرسالتك من أمير المؤمنين، ويريد أن يراك في التو والحال.

شعرت بالفرح، فأخيرا سألتقي بالأمير الذي صنع هذه المدينة المعجزة في رمشة من عمر الزمان.

ذكر أمير البلاد

الفارس الإنسان الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم

شاعر الخيل والليل والعاديات إلّي حوافرها تقدح شرر النار توريها ، هو باني هذه المدينة العجيبة وصاحب أمجادها، ورافع عمادها سار في النهج على خطى أبيه الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم الذي بدأ في تأسيس المدينة، ليكمل ابنه من بعده المسيرة.

حكاية

من عادة الشيخ محمد بن راشد تفقد المشاريع ومواقع العمل بنفسه، وكثيرا ما يخرج وحده من غير حرس ولا جند لحمايته، وفي إحدى المرات، خرج لتفقد العمل وأحوال الناس في أحد أسواق دبي الكبرى، وحين رآه الناس عرفوه، وتجمهروا حوله للسلام عليه، وهناك سأله أحد السياح: كيف تخرج وحدك في السوق من غير حماية ولا جند يحرسونك، ألا تخشى على نفسك؟ فتبسم الشيخ محمد وقال له: أترى كل هؤلاء المواطنين والمقيمين في دبي؟ قال السائل: نعم. فقال الشيخ محمد: كل هؤلاء حرسي... وصدق من قال عدل فأمن.

ذكر اللقاء بأمير البلاد

ركبت العجلة السيارة مع الشيخ حسين للقاء الأمير، وأنا أحمل رسالة مولاي أمير المؤمنين، وكنت أتوقع أن ألقاه في قصر باذخ من قصور دبي العامرة، أو برج عملاق من أبراجها الشاهقة، لكني فوجئت بالسيارة تأخذنا إلى أطراف المدينة، ثم واصلت المسير إلى أعماق الصحراء حيث الرمال الذهبية تتوهج تحت أشعة شمس الصباح، لأجد نفسي بعد ساعة من السفر وسط واحة خضراء في عمق الصحراء.

وفي وسط الواحة بيت مسباع من بيوت الشعر الذي يستخدمه البدو في حلهم وترحالهم، وأمام البيت وقف رجل مربوع القامة ممشوق القد يلبس ملابس عربية بسيطة، وتعلو وجهه ابتسامة لا تفارقه، ولم يكن الرجل سوى الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم بنفسه، واقفا أمام البيت لاستقبالي، أنا العبد الفقير إلى الله، والساعي إلى رضاه فسبحان ربي لا سواه.

ترجلنا من السيارة، وسرت مرتبك الخطى، مبلبل الأفكار من وقع المفاجأة، وسار الأمير باتجاهنا هاشا باشا، وهو ما زاد من ارتباكي. أردت الركوع كعادة الزوار مع الملوك في زماننا، لكنه منعني، وأخذ بيدي إلى المجلس حيث أجلسني بجانبه في صدر البيت، هممت بالحديث لكنني تلعثمت، ولم أكد أنطق، وفي الحقيقة فقد قابلت ملوكا وسلاطين وأمراء ووزراء، فلم أجد رغم كثرة حلي وترحالي أكثر مهابة في القلب، ولا خشية في النفس من هذا الأمير ذي الأدب الجم، والمتواضع حد الرجفة في القلب فهو كما قال الشاعر:

للاحظ تلعثمي وارتباكي، فأخذ يرحب بي، ويسأل عن إقامتي وأحوالي بعبارات بسيطة ولهجة أبوية مطمئنة، حتى هدأ روعي، وعادت روحي إليّ، فشكرته على حفاوته وحسن استقباله، وأبديت له عظيم إعجابي بما رأيت من بديع البنيان، وعجائب الزمان في دبي المحروسة مما لم أر مثله في بلد من البلدان.

ثم ناولته رسالة مولاي أمير المؤمنين ففض ختمها، وقرأها بهدوء ثم ناولها لأحد المرافقين خلفه. وحملني عظيم السلام والتحية والإكرام لمولاي أمير المؤمنين، ثم سألني عن بلادي وأحوالها والبلاد التي زرتها في المشارق والمغارب، وأعجب ما رأيت فيها، فأجبته بالتفصيل عن كل ما سأل.

حين انتهى اللقاء، دعاني والشيخ حسين للغداء في حضرته، فكان هذا أبلغ الإكرام ثم حملني بالهدايا الباهرة، وكان من بينها فرس عربية أصيلة شهباء اللون، وعجلة سيارة مطلية بالذهب، وسيف مرصع بالجواهر النادرة وغيرها الكثير، وأعطاني رسالة خاصة منه إلى مولاي أمير المؤمنين ردا على رسالته السابقة.

في طريق العودة إلى المدينة، التزمت بالصمت، وكذلك فعل الشيخ حسين على غير عادتنا، ولست أدري كيف غفوت ورحت في نوم عميق لم أصح منه إلا على يد تهزني بعنف.

صحوت من النوم مفزوعا وأنا أصيح، أبراج ، حدائق، حور عين... حور عين....

فتحت عيني، فإذا بزوجتي تصيح بي بصوت غاضب كهزيم الرعد: حور عين إلّي تأخذك يا لعين، اصحى فضحت حالك بمنامك... قل لي من الحور العين يا شيطان يا رجيم......